* مع الخالدات :
قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
[التحريم:11]
- حلقة فى سلسلة تكريم القرآن للمرأة ففى كتاب الله سورة باسم " النساء " ، وسورة باسم امرأة " مريم " ، وآيات نزلت فى مخدع امرأة " عائشة " ، وآيات تنزل لتبرأها ، وقرآن ينزل ليزوج امرأة ، وعشرات الآيات التى تبين حقوقها وواجباتها .
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للرجال
- وها هى ذى امرأة كرمها القرآن ، خلد ذكرها المنان ، فى آية تتلى ما بقى الجديدان ، ضرب الله - عز وجل - بإيمانها المثل . إنها آسية - امرأة فرعون - السراج الذي أضاء في ظلمات القصر ، آسية التى غزا الإيمان قلبها ، وملك عليها أمرها .
- يرتفع قدر هذه المرأة أضعافاً ، وتعلو مكانتها علواً بمجرد أن يقع طرف البصر على الآية التى تليها حيث إفرادها بالذكر مع مريم ابنة عمران.
وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة , ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل .
* فى ظلال الآية :
قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
- ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) وضرب الله مثلاً لحال المؤمنين- الذين صدَّقوا الله ، وعبدوه وحده ، وعملوا بشرعه ، وأنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين في معاملتهم - بحال زوجة فرعون التي كانت في عصمة أشد الكافرين بالله ، وهي مؤمنة بالله .
- ( إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) حين قالت: رب ابْنِ لي دارًا عندك في الجنة .
قال ابن القيم: فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة فإن الجار قبل الدار.
- ( وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع .
- (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وخلصني من القوم التابعين له في الظلم والضلال ، ومن عذابهم .
- وجاءت هذه الآية والتى تليها مثلين لمؤمنتين صادقتين عاشتا فى بيئة كفر ( آسية ومريم ) بعد ذكر مثلين لامرأتين كافرتين خائنتين عاشتا فى بيئة نبوة ( امرأتي نوح ولوط ) تعريضاً بامرأتين ( أمى المؤمنين عائشة وحفصة ) لما تظاهرا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان الترهيب بذكر مثل الكافرتين ، فإن صدرت منهما معصية ، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي لدفع العذاب ، ثم ذكر مثل المؤمنتين ترغيباً في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين ، وحثاً للمؤمنين على الصبر في الشدة ، كصبر آسية على أذى فرعون ، وصبر مريم على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة ، فصبر المؤمن والمؤمنة على الأذى ينجي من القوم الظالمين ، والتقرب إلى اللّه يكون بالطاعات .
قال تعالى : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) [التحريم4:-5]
وقال تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) [التحريم:10-12]
* مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا :
- دعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة .
امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ . في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي . . ولكنها استعلت على هذا بالإيمان . ولم تعرض عن هذا العرض فحسب , بل اعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه . وتتفلت من عقابيله , وتطلب النجاة منه !
- هي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية . . وهذا فضل آخر عظيم . فالمرأة أشد شعوراً وحساسية بوطأة المجتمع وتصوراته . ولكن هذه المرأة . . وحدها . . في وسط ضغط المجتمع , وضغط القصر , وضغط الملك , وضغط الحاشية , والمقام الملوكي .
- في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء . . وحدها . . في خضم هذا الكفر الطاغي !
- نموذج عال في التجرد لله من كل هذه المؤثرات ، وكل هذه الأواصر , وكل هذه المعوقات , وكل هذه الهواتف . تحدت آسية زوجها، وشمخت بإيمانها، ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.
* فى وداع الملكة :
ها هي امرأة فرعون من أغنى أهل الأرض ...
ادخلي قصرها وانظري ...
إذا بقصر يبهر العقول ... كأن الجمال يصول بين جنباته ويجول ...
نمارق مصفوفة ، وسرر مرفوعة وجدران مزخرفة ...
وفجأة ننظر في ذلك القصر ...
بداخلة امرأة مربوطة تساق إلى خشبة الجلاد ...
انظري إليها .. دققي ..
هي ليست بخادمة ولا سارقة ...
وإنما هذه المربوطة هي الملكة !! .
الملكة ؟! صاحبة هذا القصر هي هي بعينها ...
هذه المربوطة كانت إذا تحركت في القصر وقفت لها أنفاس الخدم ...
كانت إذا أشارت بيدها تسابقت لها الأيادي بما تشتهي من النعم ...
أجمل قصر على الأرض هو قصرها وأغلى حلي في الوجود حليها ...
لكنها تساءلت : هذا النعيم الذي أرفل فيه إلى متى سيدوم ؟
فطرقت مسامعها إجابات صريحة قد يدوم مائة سنة وقد لا يدوم .
فكرت بقصر لا ينتهي بزمن ولا يزول إذا ماتت .
فكرت في حلل لا تبلى ، وحلي لا تتغير ولا تصدأ .
فكرت فى ملك لا ينتهي ولا يفنى ...
فلما أن لاح لها الهدف تقدمت نحوه تقدم الواضح الذي لا يقف ولو أدمي قلبه
هددوها بزوال قصرها وملكها ...
فتذكرت أن قصرها الذي في السماء هو الأبقى ...
هيهات لمن عُرض لها الذهب أن تغريها باللعب .
أمر فرعون بها فمدت بين يديه على لوحٍ ...
ربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد ...
وأمر بضربها فضربت ...
حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها .. واللحم ينسلخ عن عظامها ..
فلما اشتدّ عليها العذاب .. وعاينت الموت .. رفعت بصرها إلى السماء .. وقالت :
( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
وارتفعت دعوتها إلى السماء ...
فكشف الله لها عن بيتها في الجنة ...
فتبسمت .. ثم ماتت .. ماتت الملكة ..
التي كانت بين طيب وبخور .. وفرح وسرور ..
تركت فساتينها .. وعطورها .. وخدمها .. وصديقاتها ..
واختارت الموت ..
لكنها اليوم .. تتقلب في النعيم كيفما شاءت ..
ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك .. وهي التى تحدت الطغيان ، وآثرت لقاء الرحمن .
نفعها صبرها على الطاعات .. ومقاومتها للشهوات ..
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا )
* وخلدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
- لله درُك يا آسية ! لقد خلدك القرآن - كلام ربي أعظم كتاب – وها أنت على درب الخلود سائرة ، ولم لا ؟! وقد مدحك أعظم الخلق ، ذُكرتِ على لسان أفصح الخلق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فتارة يشهد لك بتمام فضلك وكمال عقلك ، وتارة يروى مشهد عذابك ، وملحمة صبرك وثباتك .
- عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " [متفق عليه]
- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ " . [أحمد والترمذي]
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ، قَالَ: " تَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ " .
[أحمد والحاكم]
- عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة فقالت : ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فكشف لها عن بيتها في الجنة .
[رواه أبو يعلى فى مسنده ، وقال بركة الزمان وحسنة الأيام الألبانى : و هو في حكم المرفوع ؛ لأنه لا يقال بمجرد الرأي]
وفى رواية : عَنْ سَلْمَانَ ، قَالَ: " كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عنها أَظَلَّتْهَا الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا ، فَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا مِنَ الْجَنَّةِ " .
[ رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ]
وفى رواية : عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : " وَتَّدَ فِرْعَوْنُ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جعَلَ عَلَى بَطْنِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ " .
[ رواه البيهقي فى شعب الإيمان / بَابٌ فِي شُحِّ الْمَرْءِ بِدِينِهِ حَتَّى يَكُونَ الْقَذْفُ فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ]
- حُق لك أن يخلد ذكرك فى كتاب الله ، وسنة نبيه ، ما أرجح عقلك ! ما أكمله ! حين آثرت الباقية على الفانية ، وكأنك فى آتون المعاناة المريرة ، والمأساة المريعة ترددين بلسان الحال : الدنيا ... ظل غمام وحلم نيام ، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق ، وحرم التوفيق ، والآخرة ... يقظة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قد أبت علىَّ نفسي إلا أن أدخل الجنة فبعتُ لله نفسي واللهُ اشترى .
قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
[التحريم:11]
- حلقة فى سلسلة تكريم القرآن للمرأة ففى كتاب الله سورة باسم " النساء " ، وسورة باسم امرأة " مريم " ، وآيات نزلت فى مخدع امرأة " عائشة " ، وآيات تنزل لتبرأها ، وقرآن ينزل ليزوج امرأة ، وعشرات الآيات التى تبين حقوقها وواجباتها .
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للرجال
- وها هى ذى امرأة كرمها القرآن ، خلد ذكرها المنان ، فى آية تتلى ما بقى الجديدان ، ضرب الله - عز وجل - بإيمانها المثل . إنها آسية - امرأة فرعون - السراج الذي أضاء في ظلمات القصر ، آسية التى غزا الإيمان قلبها ، وملك عليها أمرها .
- يرتفع قدر هذه المرأة أضعافاً ، وتعلو مكانتها علواً بمجرد أن يقع طرف البصر على الآية التى تليها حيث إفرادها بالذكر مع مريم ابنة عمران.
وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة , ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل .
* فى ظلال الآية :
قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
- ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) وضرب الله مثلاً لحال المؤمنين- الذين صدَّقوا الله ، وعبدوه وحده ، وعملوا بشرعه ، وأنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين في معاملتهم - بحال زوجة فرعون التي كانت في عصمة أشد الكافرين بالله ، وهي مؤمنة بالله .
- ( إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) حين قالت: رب ابْنِ لي دارًا عندك في الجنة .
قال ابن القيم: فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة فإن الجار قبل الدار.
- ( وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ) خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع .
- (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وخلصني من القوم التابعين له في الظلم والضلال ، ومن عذابهم .
- وجاءت هذه الآية والتى تليها مثلين لمؤمنتين صادقتين عاشتا فى بيئة كفر ( آسية ومريم ) بعد ذكر مثلين لامرأتين كافرتين خائنتين عاشتا فى بيئة نبوة ( امرأتي نوح ولوط ) تعريضاً بامرأتين ( أمى المؤمنين عائشة وحفصة ) لما تظاهرا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان الترهيب بذكر مثل الكافرتين ، فإن صدرت منهما معصية ، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي لدفع العذاب ، ثم ذكر مثل المؤمنتين ترغيباً في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين ، وحثاً للمؤمنين على الصبر في الشدة ، كصبر آسية على أذى فرعون ، وصبر مريم على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة ، فصبر المؤمن والمؤمنة على الأذى ينجي من القوم الظالمين ، والتقرب إلى اللّه يكون بالطاعات .
قال تعالى : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) [التحريم4:-5]
وقال تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) [التحريم:10-12]
* مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا :
- دعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة .
امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ . في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي . . ولكنها استعلت على هذا بالإيمان . ولم تعرض عن هذا العرض فحسب , بل اعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه . وتتفلت من عقابيله , وتطلب النجاة منه !
- هي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية . . وهذا فضل آخر عظيم . فالمرأة أشد شعوراً وحساسية بوطأة المجتمع وتصوراته . ولكن هذه المرأة . . وحدها . . في وسط ضغط المجتمع , وضغط القصر , وضغط الملك , وضغط الحاشية , والمقام الملوكي .
- في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء . . وحدها . . في خضم هذا الكفر الطاغي !
- نموذج عال في التجرد لله من كل هذه المؤثرات ، وكل هذه الأواصر , وكل هذه المعوقات , وكل هذه الهواتف . تحدت آسية زوجها، وشمخت بإيمانها، ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.
* فى وداع الملكة :
ها هي امرأة فرعون من أغنى أهل الأرض ...
ادخلي قصرها وانظري ...
إذا بقصر يبهر العقول ... كأن الجمال يصول بين جنباته ويجول ...
نمارق مصفوفة ، وسرر مرفوعة وجدران مزخرفة ...
وفجأة ننظر في ذلك القصر ...
بداخلة امرأة مربوطة تساق إلى خشبة الجلاد ...
انظري إليها .. دققي ..
هي ليست بخادمة ولا سارقة ...
وإنما هذه المربوطة هي الملكة !! .
الملكة ؟! صاحبة هذا القصر هي هي بعينها ...
هذه المربوطة كانت إذا تحركت في القصر وقفت لها أنفاس الخدم ...
كانت إذا أشارت بيدها تسابقت لها الأيادي بما تشتهي من النعم ...
أجمل قصر على الأرض هو قصرها وأغلى حلي في الوجود حليها ...
لكنها تساءلت : هذا النعيم الذي أرفل فيه إلى متى سيدوم ؟
فطرقت مسامعها إجابات صريحة قد يدوم مائة سنة وقد لا يدوم .
فكرت بقصر لا ينتهي بزمن ولا يزول إذا ماتت .
فكرت في حلل لا تبلى ، وحلي لا تتغير ولا تصدأ .
فكرت فى ملك لا ينتهي ولا يفنى ...
فلما أن لاح لها الهدف تقدمت نحوه تقدم الواضح الذي لا يقف ولو أدمي قلبه
هددوها بزوال قصرها وملكها ...
فتذكرت أن قصرها الذي في السماء هو الأبقى ...
هيهات لمن عُرض لها الذهب أن تغريها باللعب .
أمر فرعون بها فمدت بين يديه على لوحٍ ...
ربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد ...
وأمر بضربها فضربت ...
حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها .. واللحم ينسلخ عن عظامها ..
فلما اشتدّ عليها العذاب .. وعاينت الموت .. رفعت بصرها إلى السماء .. وقالت :
( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
وارتفعت دعوتها إلى السماء ...
فكشف الله لها عن بيتها في الجنة ...
فتبسمت .. ثم ماتت .. ماتت الملكة ..
التي كانت بين طيب وبخور .. وفرح وسرور ..
تركت فساتينها .. وعطورها .. وخدمها .. وصديقاتها ..
واختارت الموت ..
لكنها اليوم .. تتقلب في النعيم كيفما شاءت ..
ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك .. وهي التى تحدت الطغيان ، وآثرت لقاء الرحمن .
نفعها صبرها على الطاعات .. ومقاومتها للشهوات ..
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا )
* وخلدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
- لله درُك يا آسية ! لقد خلدك القرآن - كلام ربي أعظم كتاب – وها أنت على درب الخلود سائرة ، ولم لا ؟! وقد مدحك أعظم الخلق ، ذُكرتِ على لسان أفصح الخلق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فتارة يشهد لك بتمام فضلك وكمال عقلك ، وتارة يروى مشهد عذابك ، وملحمة صبرك وثباتك .
- عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " [متفق عليه]
- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ " . [أحمد والترمذي]
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ، قَالَ: " تَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ " .
[أحمد والحاكم]
- عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة فقالت : ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فكشف لها عن بيتها في الجنة .
[رواه أبو يعلى فى مسنده ، وقال بركة الزمان وحسنة الأيام الألبانى : و هو في حكم المرفوع ؛ لأنه لا يقال بمجرد الرأي]
وفى رواية : عَنْ سَلْمَانَ ، قَالَ: " كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عنها أَظَلَّتْهَا الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا ، فَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا مِنَ الْجَنَّةِ " .
[ رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ]
وفى رواية : عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : " وَتَّدَ فِرْعَوْنُ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جعَلَ عَلَى بَطْنِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ " .
[ رواه البيهقي فى شعب الإيمان / بَابٌ فِي شُحِّ الْمَرْءِ بِدِينِهِ حَتَّى يَكُونَ الْقَذْفُ فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ]
- حُق لك أن يخلد ذكرك فى كتاب الله ، وسنة نبيه ، ما أرجح عقلك ! ما أكمله ! حين آثرت الباقية على الفانية ، وكأنك فى آتون المعاناة المريرة ، والمأساة المريعة ترددين بلسان الحال : الدنيا ... ظل غمام وحلم نيام ، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق ، وحرم التوفيق ، والآخرة ... يقظة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قد أبت علىَّ نفسي إلا أن أدخل الجنة فبعتُ لله نفسي واللهُ اشترى .