محاضرة ( كلمة التوحيد .. مبنى ومعنى )
الشيخ صالح بن محمد الأسمري
مقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أما بعد :
فإن لكلمة التوحيد منزلة عظيمة ، ومكانة جليلة ؛ إذ هي مفتاح الجنة كما جاء في الحديث عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم ، إلا أن كثيرين من الناس في زماننا هذا جهلوا أشياء تتعلق بمبناها ، وما دَرَوا ما يحويه معناها ، فما كان من فضيلة الشيخ الفقيه صالح بن محمد بن حسن الأسمري ـ حفظه المولى ورعاه ، ومن كل مكروه وقاه ـ إلا أن ألقى محاضرة مباركة في ذلك ؛ سداً للثغر ، وبياناً للحق ، ونفعاً للخلق .
ولعِظَمِ ما احتوته من فوائد مهمة تعين تلخيصها ، ومن ثمَّ نشرها في هذه الصفحة المباركة ، ونسأل الله الكريم أن يعمَّ بنفعها الجميع .
[ أهمية كلمة التوحيد ]
لكلمة التوحيد أهمية عظيمة ، وبتقريرها جاءت الرسل ؛ إذ بها يعتق الإنسان من النار ويكون مآله إلى الجنة بإذن الله تعالى ، ولذا فقد ورد في "صحيح مسلم": [أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منادياً يؤذن، فقال: أشهد ألا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم : خَرَجَ من النار] ، وفي حديث الشفاعة، قال الله عزَّ وجلَّ كما في "الصحيحين": (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي ، لأُخْرجنَّ منها -أي النار- ، من قال لا إله إلا الله).
[ العناية بشأنها ]
وقد صرح الأئمة ـ يرحمهم الله ـ بتعيُّن الاعتناء بها مبنى ومعنى ، وأن الاتصاف بمضمونها من الواجبات العُمُرية ، كما صرح بذلك الإمام عليٌّ القاري - رحمه الله – في كتابه "التجريد في إعراب كلمة التوحيد" .
[ الكلام حول مبنى كلمة التوحيد ]
- أما مبنى لا إله إلا الله، فإنه يبحث من جهتين عادةً :
• الجهة الأولى: تتعلق بنطق ( لا إله إلا الله ) ، ولها مخرج وأداء.
أما المخرج : فلا بد أن يخرج الحرف عند النطق به من مخرجه العربي المعروف .
وأما الأداء : فهو أن تؤدَّ على وجهها بِمَدَّة وشَدَّة وغير ذلك .
فمن نطق لا إله إلا الله ، فأتى بأحرفها على غير وجهها لم ينتفع بذاك، وكذا من أدّاها على غير وجهها .
[ التنبيه إلى جملة أمور تتعلق بالمبنى ]
و ينبه هنا على أمور تتعلق بذلك :
ـ الأمر الأول : أن الألف في ( لا ) لا بد أن تمدَّ عند اللفظ بها بمقدار أقله حركتان ، وما دون ذلك إخلالٌ ، وللمرء أن يطيل فوق ذلك إلى أربع و إلى ست ، بمقدار عقدة الإصبع ومدها على وجه طَبَعِيٍّ ، كما قرره أهل التجويد والإقراء ، وكذا أهل علم الأصوات ، وممن قرر ذلك : ابن عرفة الدسوقي – رحمه الله - .
ـ الأمر الثاني : أن الهمزة في كلمة ( إله) همزة قطع ، فلا بد من إظهارها، ولا يصح إبدالها ياء ، كمن يقول : (لا يلاه) فإنه لم ينطق بالكلمة نطقاً صحيحاً ، ولا تحقق نفعها وثمرتها المرجوة منها في جملة أحكامها الشرعية ، كذا الأصل.
وممن قرر ذلك ابن عرفة الدسوقي ـ يرحمه الله ـ ، وقال السَّكْتَانِيُّ ـ يرحمه الله ـ : وهو لحن فاحش يغير المعنى .
ـ الأمر الثالث : لا بد من الإفصاح عن الهمزة في كلمة ( إلا ) مع تشديد اللام بعدها ، فلا يصح قلبها ياءً ( لا يلاه إلاَ الله ) وهو لحن ، وممن أشار إلى ذلك الإمام السنوسي – يرحمه الله – ، وقال الدسوقي ـ يرحمه الله ـ : ( وهذا لحن فاحش أيضاً ؛ لأنه يغير المعنى ) .
ـ الأمر الرابع : لا بد من تفخيم اللام في لفظ الجلالة ( الله ) ، فلا يصح ترقيقها، وينبغي أن لا يطيل مدّة ( الله ) عند النطق بها ، فلا يقولنّ : (الل~ه ) كذا الأصل . مع أنّ جماعة من الأئمة استحسنوا المَدَّة فيها ؛ لأنه يدل على شيئين :
الأول : أن المرء مشتغل بذهنه في إيراد النفي مَوْرِده ، والإثبات محله ، فهو عندما يقول ( لا إله ) يتذكر جميع المفردات التي يُنسب إليها أنها معبودةٌ بحق ؛ لينفيها ، وكذا عندما يقول (إلا الله) فينشغل ذهنه بالإثبات .
والثاني : أن في هذه المدة نوع تعظيم ، فهو يأتي بِمَدةٍ مُسْتَشْعراً فيها عظمة الله عز وجل .
وممن ذكر ذلك الإمام الهِبْطِيُّ الكبير في كتابه ( كنز السعادة في بيان ما يحتاج إليه من نطق بكلمة الشهادة ) .
إلا أن الأصل أن يأخذ الحرف مأخذه من الإخراج والصفة على المقنن في علم اللغة وعند المجودين ، ولكن لو وقعت المدة على وفق ما حكي آنفاً ، فإن ذلك متسامح فيه ، وله وجهه .
• الجهة الثانية : تتعلق بـإعراب ( لا إله إلا الله ) ، والمراد نسبة الأحكام النحوية إليها ، سواء أكان إعراباً أم بناءً .
وإعراب لا إله إلا الله فيه أمور ينبه إليها :
أولها :
( لا ) نافية للجنس ، وهي حرف مبني على السكون ، وعلى هذا إجماع النحويين ، حكى ذلك جماعة ، ومن أولئك : ابن السَّمِين الحلبي – يرحمه الله – في " الدر النضيد " .
وثانيها:
( إله ) لفظ مبني على الفتح على المشهور ؛ لتضمنه معنى ( مِن ) التي للتنصيص على العموم ،والتقدير : أن ( لا إله إلا الله ) هي في الأصل جواب لسؤال تقديره : هل من إله غير الله ؟ فيكون التقدير : لا مِنْ إله إلا الله .
ولما تضمن اسم الإله معنى ( مِن) حذفت (مِن ) ولم تذكر مع نيتها هنا ، ولذا كان البناء على الفتح فيه ، فدل على ما حذف في الجملة .
وخبر ( إله ) مقدّر بأشياء ، اشتهر عند النحاة تقديره بقولهم : لا إله كائن في الوجود ، أو لا إله موجود في عالم الوجود ، والنحاة عند تقديرهم هنا ينشغلون بالصنعة النحوية عن التقرير الشرعي ، فيقدرون أيَّ خبرٍ يصلح تقديره في (علم النحو والإعراب) .
وإلا فتقرير الكلمة الشرعي: إدخال استحقاق العبادة فقط ، فيكون التقدير : لا إله يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى . وممن ذكر التقرير الشرعيَّ : السيوطيُّ – يرحمه الله – في " الإتقان في علوم القرآن" ، وقال : ( قد توجب الصناعة النحوية التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه في التقرير ،وإنما يقدّر النحوي ليعطي القواعد حقها ،وإن كان المعنى مفهوماً ) كذا قال ، وعليه فإن كثيرين من الأئمة عند إعرابهم لهذه اللفظة في كتب التفسير أو النحو ينصرفون عن التقرير الشرعي لمفهوم الكلمة ومعناها ، والمرء وهو في صدد تقرير علم ما ينشغل به عن غيره ، ولا يأخذ في تقرير سواه عادة .
ولذا لم ينكر جمع كثير من الأئمة على النحاة هذا التقدير ؛ لأنه ليس محلّه .
وذهب أئمة كثيرون إلى أنه لا يجوز ذلك مطلقاً ، لا في الصنعة النحوية ، ولا في غيرها ، وممن قرر ذلك الشيخ : سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – في كتابه " تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد " ، وذكر أن هذا التقدير فاسد في الأصل ، والتقدير الحق شرعاً في المسألة هو ما سبق ، وهذا معلوم قطعاً من الدين ، وعليه الإجماع دون خلاف بين الأئمة والفقهاء ، ولا يخالف في ذلك الأشعري أو الماتوريدي ولا المعتزلي ولا الرافضي فكلهم يقولون : إن المستحق للعبادة أصالة هو الرب سبحانه وتعالى وحده دون غيره .
وعليه فلا يجوز شرعاً أن يكون الخبر هو ( كائن في الوجود أو ممكن في الوجود أو نحوها ) ؛ لأن تقدير الإمكان تجويز لوقوع الممكن ، وتجويز وقوع الممكن كوقوعه ، فكونك تقدّر جواز وقوع استحقاق غير الله بالعبادة ، كقولك إن هناك موجوداً مع الله يستحق العبادة وهذا باطل ، وكذلك إذا قلت إن غير الله موجودٌ ، يستحق العبادة ، فإن هذا باطل أيضاً . وأشار السيوطي وجماعة إلى ذلك .
وممن قرره الإمام الرازي في "تفسيره" ، وقال :" بل يكون الخبر هو قولنا في نفس الأمر" أي : أن الله مستحق للعبادة دون غيره في نفس الأمر ، أي : ليس هناك آخر ممكن أن يستحق بل في نفس الأمر حقيقة لا وجود لشيء يستحق العبادة لا إمكاناً ولا وجوداً إلا الله سبحانه وتعالى .
وإذا نفينا وجود من يستحق العبادة مع الله وإمكان وجوده في نفس الأمر فإنه لا يعنينا بعد ذلك ما وقع من الكفار في جعلهم مناة تستحق العبادة مع الله أو جعلهم غيرها من الآلهة مستحقة للعبادة مع الله ، ففرق بين نفس الأمر وبين دعوى الغير ، فإنّها تكون باطلة مردودة عليه .
وثالثها :
أن جملة ( إلا الله ) هي على البدلية ، وهو المشهور الجاري على ألسنة المعربين ، وهو رأي ابن مالك وجماعات من المحققين من المتأخرين من النحاة ، والأقرب أنه بدل عن الضمير الذي قُدّر في الخبر الذي سبق ؛ لأن الضمير المقدر في الخبر هو أقرب شيءٍ إليه .
وقيل : بل لفظ الجلالة هنا مرفوع للخبرية ، فتكون في محل رفع ابتداء ، وهذه خبر عنها ، فيكون إعراباً صِرْفاً .
ـ أما معنى ( لا إله إلا الله ) :-
وهو الأهم من حيث الاستفادة الحقيقة من الكلمة ، وقد نصّ العلماء على أنه لابد من فهم معناها ، وإلا لم ينتفع بها صاحبها في الإنقاذ من الخلود في النار .
ومعنى ( لا إله إلا الله ) يُتَنَاول من جهتين :
• الجهة الأولى : جهة تتعلق بالوجوب لعامة المكلفين ، وهو أن يعلم النفي والإثبات الذي ضُمِّن كلمة التوحيد ، وهو نفي استحقاق العبادة عن غير الله عز وجل في نفس الأمر ، وحصره فيه سبحانه وتعالى ، ولا يجب عليه معرفة دقائقها ، وإعرابها ، ومفهوم كل لفظة عند اللغويين .
وقد قرر ذلك : الإمام الهِبْطي الكبير في " كنـز السعادة " وحكى الاتفاق عليه ، وكذا جماعات كثيرون كالقرافي – يرحمه الله – في شرحه على الأصول ، والموفق ابن قدامة –يرحمه الله- في "المغني" ، وابن عبد البر في " التمهيد" وشيخ الإسلام ابن تيميّة في " مجموع الفتاوي " وابن القيم في " مفتاح السعادة " في آخرين .
وهذا المعنى هو المفهوم العام لـ ( لا إله إلا الله ) .
• الجهة الثانية : هي الجهة العلمية الصناعية ، ومعرفتها فرض كفاية على جملة الأمة ، فلا بد أن يعرفها الخاصَّة ممن عندهم الأهلية ، وقد قرر ذلك الحكم على القاعدة المعروفة في ذلك جماعة ، ومن أولئك ابن عبد البر في " الاستذكار" و"التمهيد " ، وكذا الموفق ابن قدامة في " المغني " في آخرين .
وعليه فإن لـ( لا إله إلا الله ) معنى تقوم على شيئين :
الشيء الأول : النفي ، وهو جزئها الأول نطقاً ، وهو ( لا إله ) : وهذا النفي يقوم على ثلاثة أركان ، إذا سقط ركن منها اختلَّ توحيد المرء في النفي .
محاضرة ( كلمة التوحيد .. مبنى ومعنى )
الشيخ صالح بن محمد الأسمري
الشيخ صالح بن محمد الأسمري
مقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أما بعد :
فإن لكلمة التوحيد منزلة عظيمة ، ومكانة جليلة ؛ إذ هي مفتاح الجنة كما جاء في الحديث عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم ، إلا أن كثيرين من الناس في زماننا هذا جهلوا أشياء تتعلق بمبناها ، وما دَرَوا ما يحويه معناها ، فما كان من فضيلة الشيخ الفقيه صالح بن محمد بن حسن الأسمري ـ حفظه المولى ورعاه ، ومن كل مكروه وقاه ـ إلا أن ألقى محاضرة مباركة في ذلك ؛ سداً للثغر ، وبياناً للحق ، ونفعاً للخلق .
ولعِظَمِ ما احتوته من فوائد مهمة تعين تلخيصها ، ومن ثمَّ نشرها في هذه الصفحة المباركة ، ونسأل الله الكريم أن يعمَّ بنفعها الجميع .
[ أهمية كلمة التوحيد ]
لكلمة التوحيد أهمية عظيمة ، وبتقريرها جاءت الرسل ؛ إذ بها يعتق الإنسان من النار ويكون مآله إلى الجنة بإذن الله تعالى ، ولذا فقد ورد في "صحيح مسلم": [أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع منادياً يؤذن، فقال: أشهد ألا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم : خَرَجَ من النار] ، وفي حديث الشفاعة، قال الله عزَّ وجلَّ كما في "الصحيحين": (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي ، لأُخْرجنَّ منها -أي النار- ، من قال لا إله إلا الله).
[ العناية بشأنها ]
وقد صرح الأئمة ـ يرحمهم الله ـ بتعيُّن الاعتناء بها مبنى ومعنى ، وأن الاتصاف بمضمونها من الواجبات العُمُرية ، كما صرح بذلك الإمام عليٌّ القاري - رحمه الله – في كتابه "التجريد في إعراب كلمة التوحيد" .
[ الكلام حول مبنى كلمة التوحيد ]
- أما مبنى لا إله إلا الله، فإنه يبحث من جهتين عادةً :
• الجهة الأولى: تتعلق بنطق ( لا إله إلا الله ) ، ولها مخرج وأداء.
أما المخرج : فلا بد أن يخرج الحرف عند النطق به من مخرجه العربي المعروف .
وأما الأداء : فهو أن تؤدَّ على وجهها بِمَدَّة وشَدَّة وغير ذلك .
فمن نطق لا إله إلا الله ، فأتى بأحرفها على غير وجهها لم ينتفع بذاك، وكذا من أدّاها على غير وجهها .
[ التنبيه إلى جملة أمور تتعلق بالمبنى ]
و ينبه هنا على أمور تتعلق بذلك :
ـ الأمر الأول : أن الألف في ( لا ) لا بد أن تمدَّ عند اللفظ بها بمقدار أقله حركتان ، وما دون ذلك إخلالٌ ، وللمرء أن يطيل فوق ذلك إلى أربع و إلى ست ، بمقدار عقدة الإصبع ومدها على وجه طَبَعِيٍّ ، كما قرره أهل التجويد والإقراء ، وكذا أهل علم الأصوات ، وممن قرر ذلك : ابن عرفة الدسوقي – رحمه الله - .
ـ الأمر الثاني : أن الهمزة في كلمة ( إله) همزة قطع ، فلا بد من إظهارها، ولا يصح إبدالها ياء ، كمن يقول : (لا يلاه) فإنه لم ينطق بالكلمة نطقاً صحيحاً ، ولا تحقق نفعها وثمرتها المرجوة منها في جملة أحكامها الشرعية ، كذا الأصل.
وممن قرر ذلك ابن عرفة الدسوقي ـ يرحمه الله ـ ، وقال السَّكْتَانِيُّ ـ يرحمه الله ـ : وهو لحن فاحش يغير المعنى .
ـ الأمر الثالث : لا بد من الإفصاح عن الهمزة في كلمة ( إلا ) مع تشديد اللام بعدها ، فلا يصح قلبها ياءً ( لا يلاه إلاَ الله ) وهو لحن ، وممن أشار إلى ذلك الإمام السنوسي – يرحمه الله – ، وقال الدسوقي ـ يرحمه الله ـ : ( وهذا لحن فاحش أيضاً ؛ لأنه يغير المعنى ) .
ـ الأمر الرابع : لا بد من تفخيم اللام في لفظ الجلالة ( الله ) ، فلا يصح ترقيقها، وينبغي أن لا يطيل مدّة ( الله ) عند النطق بها ، فلا يقولنّ : (الل~ه ) كذا الأصل . مع أنّ جماعة من الأئمة استحسنوا المَدَّة فيها ؛ لأنه يدل على شيئين :
الأول : أن المرء مشتغل بذهنه في إيراد النفي مَوْرِده ، والإثبات محله ، فهو عندما يقول ( لا إله ) يتذكر جميع المفردات التي يُنسب إليها أنها معبودةٌ بحق ؛ لينفيها ، وكذا عندما يقول (إلا الله) فينشغل ذهنه بالإثبات .
والثاني : أن في هذه المدة نوع تعظيم ، فهو يأتي بِمَدةٍ مُسْتَشْعراً فيها عظمة الله عز وجل .
وممن ذكر ذلك الإمام الهِبْطِيُّ الكبير في كتابه ( كنز السعادة في بيان ما يحتاج إليه من نطق بكلمة الشهادة ) .
إلا أن الأصل أن يأخذ الحرف مأخذه من الإخراج والصفة على المقنن في علم اللغة وعند المجودين ، ولكن لو وقعت المدة على وفق ما حكي آنفاً ، فإن ذلك متسامح فيه ، وله وجهه .
• الجهة الثانية : تتعلق بـإعراب ( لا إله إلا الله ) ، والمراد نسبة الأحكام النحوية إليها ، سواء أكان إعراباً أم بناءً .
وإعراب لا إله إلا الله فيه أمور ينبه إليها :
أولها :
( لا ) نافية للجنس ، وهي حرف مبني على السكون ، وعلى هذا إجماع النحويين ، حكى ذلك جماعة ، ومن أولئك : ابن السَّمِين الحلبي – يرحمه الله – في " الدر النضيد " .
وثانيها:
( إله ) لفظ مبني على الفتح على المشهور ؛ لتضمنه معنى ( مِن ) التي للتنصيص على العموم ،والتقدير : أن ( لا إله إلا الله ) هي في الأصل جواب لسؤال تقديره : هل من إله غير الله ؟ فيكون التقدير : لا مِنْ إله إلا الله .
ولما تضمن اسم الإله معنى ( مِن) حذفت (مِن ) ولم تذكر مع نيتها هنا ، ولذا كان البناء على الفتح فيه ، فدل على ما حذف في الجملة .
وخبر ( إله ) مقدّر بأشياء ، اشتهر عند النحاة تقديره بقولهم : لا إله كائن في الوجود ، أو لا إله موجود في عالم الوجود ، والنحاة عند تقديرهم هنا ينشغلون بالصنعة النحوية عن التقرير الشرعي ، فيقدرون أيَّ خبرٍ يصلح تقديره في (علم النحو والإعراب) .
وإلا فتقرير الكلمة الشرعي: إدخال استحقاق العبادة فقط ، فيكون التقدير : لا إله يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى . وممن ذكر التقرير الشرعيَّ : السيوطيُّ – يرحمه الله – في " الإتقان في علوم القرآن" ، وقال : ( قد توجب الصناعة النحوية التقدير ، وإن كان المعنى غير متوقف عليه في التقرير ،وإنما يقدّر النحوي ليعطي القواعد حقها ،وإن كان المعنى مفهوماً ) كذا قال ، وعليه فإن كثيرين من الأئمة عند إعرابهم لهذه اللفظة في كتب التفسير أو النحو ينصرفون عن التقرير الشرعي لمفهوم الكلمة ومعناها ، والمرء وهو في صدد تقرير علم ما ينشغل به عن غيره ، ولا يأخذ في تقرير سواه عادة .
ولذا لم ينكر جمع كثير من الأئمة على النحاة هذا التقدير ؛ لأنه ليس محلّه .
وذهب أئمة كثيرون إلى أنه لا يجوز ذلك مطلقاً ، لا في الصنعة النحوية ، ولا في غيرها ، وممن قرر ذلك الشيخ : سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – في كتابه " تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد " ، وذكر أن هذا التقدير فاسد في الأصل ، والتقدير الحق شرعاً في المسألة هو ما سبق ، وهذا معلوم قطعاً من الدين ، وعليه الإجماع دون خلاف بين الأئمة والفقهاء ، ولا يخالف في ذلك الأشعري أو الماتوريدي ولا المعتزلي ولا الرافضي فكلهم يقولون : إن المستحق للعبادة أصالة هو الرب سبحانه وتعالى وحده دون غيره .
وعليه فلا يجوز شرعاً أن يكون الخبر هو ( كائن في الوجود أو ممكن في الوجود أو نحوها ) ؛ لأن تقدير الإمكان تجويز لوقوع الممكن ، وتجويز وقوع الممكن كوقوعه ، فكونك تقدّر جواز وقوع استحقاق غير الله بالعبادة ، كقولك إن هناك موجوداً مع الله يستحق العبادة وهذا باطل ، وكذلك إذا قلت إن غير الله موجودٌ ، يستحق العبادة ، فإن هذا باطل أيضاً . وأشار السيوطي وجماعة إلى ذلك .
وممن قرره الإمام الرازي في "تفسيره" ، وقال :" بل يكون الخبر هو قولنا في نفس الأمر" أي : أن الله مستحق للعبادة دون غيره في نفس الأمر ، أي : ليس هناك آخر ممكن أن يستحق بل في نفس الأمر حقيقة لا وجود لشيء يستحق العبادة لا إمكاناً ولا وجوداً إلا الله سبحانه وتعالى .
وإذا نفينا وجود من يستحق العبادة مع الله وإمكان وجوده في نفس الأمر فإنه لا يعنينا بعد ذلك ما وقع من الكفار في جعلهم مناة تستحق العبادة مع الله أو جعلهم غيرها من الآلهة مستحقة للعبادة مع الله ، ففرق بين نفس الأمر وبين دعوى الغير ، فإنّها تكون باطلة مردودة عليه .
وثالثها :
أن جملة ( إلا الله ) هي على البدلية ، وهو المشهور الجاري على ألسنة المعربين ، وهو رأي ابن مالك وجماعات من المحققين من المتأخرين من النحاة ، والأقرب أنه بدل عن الضمير الذي قُدّر في الخبر الذي سبق ؛ لأن الضمير المقدر في الخبر هو أقرب شيءٍ إليه .
وقيل : بل لفظ الجلالة هنا مرفوع للخبرية ، فتكون في محل رفع ابتداء ، وهذه خبر عنها ، فيكون إعراباً صِرْفاً .
ـ أما معنى ( لا إله إلا الله ) :-
وهو الأهم من حيث الاستفادة الحقيقة من الكلمة ، وقد نصّ العلماء على أنه لابد من فهم معناها ، وإلا لم ينتفع بها صاحبها في الإنقاذ من الخلود في النار .
ومعنى ( لا إله إلا الله ) يُتَنَاول من جهتين :
• الجهة الأولى : جهة تتعلق بالوجوب لعامة المكلفين ، وهو أن يعلم النفي والإثبات الذي ضُمِّن كلمة التوحيد ، وهو نفي استحقاق العبادة عن غير الله عز وجل في نفس الأمر ، وحصره فيه سبحانه وتعالى ، ولا يجب عليه معرفة دقائقها ، وإعرابها ، ومفهوم كل لفظة عند اللغويين .
وقد قرر ذلك : الإمام الهِبْطي الكبير في " كنـز السعادة " وحكى الاتفاق عليه ، وكذا جماعات كثيرون كالقرافي – يرحمه الله – في شرحه على الأصول ، والموفق ابن قدامة –يرحمه الله- في "المغني" ، وابن عبد البر في " التمهيد" وشيخ الإسلام ابن تيميّة في " مجموع الفتاوي " وابن القيم في " مفتاح السعادة " في آخرين .
وهذا المعنى هو المفهوم العام لـ ( لا إله إلا الله ) .
• الجهة الثانية : هي الجهة العلمية الصناعية ، ومعرفتها فرض كفاية على جملة الأمة ، فلا بد أن يعرفها الخاصَّة ممن عندهم الأهلية ، وقد قرر ذلك الحكم على القاعدة المعروفة في ذلك جماعة ، ومن أولئك ابن عبد البر في " الاستذكار" و"التمهيد " ، وكذا الموفق ابن قدامة في " المغني " في آخرين .
وعليه فإن لـ( لا إله إلا الله ) معنى تقوم على شيئين :
الشيء الأول : النفي ، وهو جزئها الأول نطقاً ، وهو ( لا إله ) : وهذا النفي يقوم على ثلاثة أركان ، إذا سقط ركن منها اختلَّ توحيد المرء في النفي .
محاضرة ( كلمة التوحيد .. مبنى ومعنى )
الشيخ صالح بن محمد الأسمري